الدافعية الذاتية مفيدة في التطوع والمبادرة ضد جائحة كورونا COVID-19

بدأت جائجة فايروس كورونا COVID-19 في آواخر سنة ٢٠١٩ في مدينة ووهان الصينية ولم يتنبأ أحد حينها بما سيحدثه انتشار هذا الفايروس وكيف أنه سيتحول إلى جائحة عالمية لتصيب عشرات الملايين من البشر خلال سنة واحدة أو أقل. الكل تأثر بهذه الجائحة على المستوى الشخصي أو العائلي أو الدولي. فهناك دول كثيرة قررت أن تطبق الحظر المنزلي الكامل أو الجزئي لمدة أسابيع وربما أعادت بعض هذه الدول تطبيق الحظر لمرات أخرى نظراً لتفشي الفايروس من جديد. ولا نزال حتى تاريخ كتابة هذه المقالة نعيش تداعيات هذه الجائحة بالتباعد الجسدي وتطبيق الاحترازات الصحية الوقائية رغم أن اللقاح قد توفر في كثير من الدول بالفعل وهناك ملايين من البشر قد أخذوا اللقاح. ولكن عبر التجارب التي ممرنا بها خلال هذه الجائحة سواءً بداية الجائحة أو بعد توفر اللقاح لاحظنا دور التوعية المجتمعية و وعي المجتمعات -لاسيما المجتمع السعودي- في التصدي إلى هذه الجائحة. لاحظنا كيف أنه كلما ازدادت كمية تطبيق الاحترازات الوقائية والتزمنا بها زادت معها فرص الوصول إلى بر الأمان بإذن الله. وقد أولت حكومة بلادنا الرشيدة -المملكة العربية السعودية- جهداً كبيراً وبذلت قصار جهدها حيث وضعت صحة الإنسان أولاً قبل كل شيء، ولاحظ الناس كيف أن المملكة سبقت بلداناً أخرى في تقليل عدد الإصابات والحالات الحرجة. وهذا أمر يذكر فيشكر. ولاحظنا أن ثمرة الجهود الحكومية تكللت وتعاضدت بالتفاعل الجميل من أفراد المجتمع السعودي ومبادراتهم على المستوى الفردي والجمعي في التوعية والعمل التطوعي في المجالات المسموح المشاركة بها لتقليل آثار جائحة كورونا والحماية منه.

ما هو سؤال البحث؟

ولكن ظل هناك سؤال يحتاج إلى إجابة بالنسبة لي: ماهي العوامل السيكولوجية (ضمن نظرية الدافعية الذاتية) التي يمكن أن تتنبأ لنا بالأشخاص الأكثر فاعلية في التوعية ضد جائحة كورونا وكذلك عدد مبادراتهم التطوعية؟ هذا سؤال ملح لاسيما في ظل هذه الجائحة التي تتطلب وقوف المواطنين مع تعليمات قيادتهم للتعرف على أفضل الممارسات السيكولوجية التي يمكن أن نراعيها لدى فئة الشباب. ومن أجل هذا قمت بعمل استطلاع ضم عدداً تجاوز المئتين طالباً وطالبةً في جامعات المنطقة الشرقية حاولت فيه أن أجد العلاقة عن الحاجات الأساسية الثلاثة (التي تحدثنا عنها هنا أيضاً) وعلاقتها بالحس الوطني والمبادرة المجتمعية. وقد ترشح البحث والحمد لله لملتقى التكامل المعرفي الذي أقامته وزارة التعليم لمناقشة ومعالجة قضايا هذه الجائحة وذلك في عام ٢٠٢٠، ولكن البحث تم دعمه لاحقاً من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ونشر في المجلة العالمية Frontiers in Education (ويمكن الوصول لكامل البحث بالإنجليزية من هنا). ونريد في هذه المقالة أن نتحدث عن نتائج هذه الدراسة للقارئ الكريم لعلها أن تكون إسهاماً علمياً مفيداً للقارئ وإضافة تعود بالنفع للبحث العلمي ضمن سياق المملكة العربية السعودية.

ماذا وجدنا في البحث؟

تم استخدام الثلاث حاجات النفسية (توفر الخيارات، تمكين الاتقان، والارتباط الإيجابي) كمتغيرات متنبأة لثلاثة معايير للحس الوطني هي: (١) عدد أنواع المساهمات التي قام بها الفرد اتجاه وطنه أثناء الجائحة، (٢) البحث عن الفرص للمساهمة المجتمعية تطوعياً، (٣) الشعور بتحمل المسؤولية اتجاه الوطن والتطوع بما يناسب أثناء الجائحة. ولتوضيح الحاجات النفسية الثلاثة بشكل مبسط فالمقصود بـ(توفر الخيارات) هو شعور الفرد بأن لديه خيارات متاحة لأداء النشاط وأنه ليس مجبر على طريقة وأسلوب محدد. ويقصد بـ(تمكين الاتقان) هو أن يشعر الفرد بقدرته على الإنجاز وإتقان العمل وأنه ضمن قدراته العقلية والجسدية. ويقصد بـ(الارتباط الإيجابي) هو أن يشعر الفرد بالعلاقة الجيدة والتغذية الراجعة المفيدة ممن حوله وأن يشعر بأن الآخرين يهتمون به وأنه يهتم بهم. هذه الحاجات الأساسية الثلاثة مبنة على نظرية الدافعية الذاتية Self-determination theory والتي يمكن القراءة عنها أكثر في مدونتي.

لقد قمنا باستقصاء آراء مايزيد عن ٢٠٠ طالب وطالبة خلال شهر رمضان المبارك عام ١٤٤١هـ الموافق لشهر مايو ٢٠٢٠م (حيث ذروة الجائحة). لقد وجدنا من خلال التحليل عبر نمذجة المعادلات الهيكلية أن تأثير هذه الحاجات الأساسية الثلاثة و المعايير التي اخترناها إيجابي ومعتبر حسب النموذج التالي

نلاحظ أن لحاجة “تمكين الاتقان” تأثير إيجابي (١) على الحس الوطني (٢) البحث عن فرص للتطوع و (٣) عدد المساهمات. في حين أن “توفر الخيارات” له تأثير إيجابي على البحث عن (٣) عدد المساهمات، وأن “الارتباط الإيجابي” له تأثير ضعيف على جميع المتغيرات.

وذلك يعني أنه كلما ازداد لدى الفرد حاجته بأنه قادر على العطاء والتطوع فإن لديه فرصة أكبر بأن يبحث عن الفرص تطوعياً وأن يشعر بالمسؤولية اتجاه مجتمعه ووطنه وعن البحث عن الفرص للمساهمة. كما أظهرت الدراسة تفوق الطالبات على نظرائهم الطلاب في هذا الشأن.

توصيات علمية عملية؟

✅ توصي الدراسة بالاهتمام الكافي لتوفير حاجات الطلاب والطالبات النفسية التي تم التطرق لها في الدراسة وهي (توفر الخيارات، تمكين الإتقان، بينما الارتباط الإيجابي إلى حد ما)، حيث أظهرت الدارسة علاقتهم الإيجابية مع محاور الحس الوطني والمسؤولية المجتمعية. ويمكن توفير هذه الحاجات بشكل فعال عبر الأشخاص الملاصقين للطلاب والطالبات، من أمثال المعلمين والأساتذة الجامعيين وأولياء الأمور، فهم من أكثر العناصر البشرية تواصلاً مع الطلاب والطالبات. وحسبما أشارت إليه الدراسات السابقة فإن تشبع هذه الحاجات الثلاثة ينطوي عليه ثمار إيجابية على الفرد أولاً وعلى محيطه ومجتمعه ثانياً.
✅ توصي الدراسة بالاهتمام بتعزيز جوانب الحاجات النفسية الثلاثة بين الجنسين على حدٍ سواء، وذلك لما لوحظ من تشابه شديد بين الجنسين حول هذه العوامل الثلاثة. ولكن من الاستنتاجات التي توصي بها الدراسة هو أن يتم توضيح الفرص المتاحة للطلاب الذكور بشكل أكبر وذلك لما لوحظ من تفوّق الطالبات على نظرائهم الطلاب في معرفة الفرص المتاحة للمساهمة في توعية المجتمع والبحث عنها. وهذا يعتبر من العوامل المهمة في دعم وتعزيز الإجراءات الوقائية التي تقوم بها الحكومة ممثلة بقطاعاتها المختلفة.
✅ يظهر من الدراسة أن أعداد المساهمات التي قام بها الطلاب والطالبات لم يكن متغيراً معبراً عن محور الحس الوطني بشكل جيد، ولم يظهر من الاختبارات الإحصائية أيّة فروقات إحصائية بين الجنسين. وفي ذات الوقت لم ترتبط هذه العبارة بأي متغير من متغيرات الدراسة إحصائياً، ولهذا توصي الدراسة بعدم التركيز على عدد أنواع المساهمات التطوعية وإنما الاهتمام بنوعية المساهمة المجتمعية وجودتها واستمرارية بقائها حتى تنهي الفترة المخصصة للحجر الصحي وترتفع الإجراءات الاحترازية بإذن الله، فهذا أهم وأقوى أثراً كما تقترحه نتائج الدراسة.

وفي الختام أرجو أن ينفع الله بهذه الدراسة لفهم واقع التعامل مع جائحة كورونا بما يخدم مجتمعنا ووطنا والبشر جميعاً. وإلى موضوع في الدافعية جديد ألتقيكم على خير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *