كيف كان النبي ﷺ يحفز؟

نرغب في تحفيز الآخرين ونريد في أن يحقق من هم تحت مسؤوليتنا النجاح وتحقيق أهدافهم. فمثلاً نرغب بأن يحقق من هو تحت مسؤوليتنا (ابنك، موظفك، طالبك) أفضل المستويات والإنتاجية في العمل. ولكن الغاية لا تبرر الوسيلة،فلا ينبغي أن نستخدم أي طريقة تخطر ببالنا من أجل التحفيز. فعلى سبيل المثال، لا ينبغي للإنسان العاقل أن يحفز غيره للنجاح  عن طريق تدريبه على الغش والتحايل.

وحتى نعرف الطرق الصحيحة لتحفيز أنفسنا ومن هم أقل منا درحة (من هم تحت مسؤوليتنا) علينا الاعتماد على المنهج النبوي والذي تؤكد فعاليته الدراسات العلمية الحديثة. نبينا الكريم ﷺ هو القدوة والأسوة الحسنة. منه نستقي الخلق القويم والقيم المثلى في التعامل مع الآخرين، لأنه خير من تعامل مع البشر لاسيما فيما يتعلق بالتحفيز السليم. يقول الله عز وجل واصفاً نبيه الكريم {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}. وسُئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي ﷺ فقالت: (كان خلقه القرآن) صححه الألباني. فعندما يأمر الله عز وجل نبيه ﷺ بالتواضع فهو خير مثال للتواضع، وعندما يُؤمر بالإحسان والعطاء يكون خير من يحسن ويعطي، ومثال ذلك ما قالته عائشة رضي الله عنها في وصفها عن النبي ﷺ: (كان أجودَ الناسِ بالخيرِ) صححه الألباني. وبناءً على هذه المعطيات، ينبغي على المسلم أن يقتبس طرق التحفيز السليم وفق سيرة النبي الكريم ومواقفه مع الناس ممن كانوا أقل منه درجة أو تحت مسؤوليته لقول الله {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}.

هل كل أنواع التحفيز مناسبة؟


يعتقد بعض الناس أن كل أنواع التحفيز سليمة ويصلح استخدامها، ولكن هذا الإدعاء غير صائب علمياً ومنهجياً. فكما أن ليس كل مايسمى شراباً يمكن أن يُشرب فكذلك التحفيز. على سبيل المثال هناك أنواع من التحفيز أسميناها بالتحفيز سيئ السمعة (أنظر هذه المقالة مثلاً) حيث حذرنا منها ولانزال. وبشكل مختصر يمكن تقسم طرق التحفيز إلى نوعين رئيسيين هما: التحفيز الخارجي والتحفيز الداخلي. فما هو التحفيز الخارجي والداخلي؟ وأيهما كان النبي ﷺ يطبقه؟

التحفيز الخارجي مبني على فكرة وضع شرط للحصول على (أو تحاشي) نتيجة ما. ويمكن اختصاره بالمعادلة التالية: (شرط+نتيجة=تحفيز خارجي)

يمكنك أن تضع مكافأة لأحد طلابك من أجل أن يقوم بأداء عمل ما، وستجد الاستجابة السريعة. نعم هذا محتمل. لكن رغم إن التحفيز الخارجي يؤدي إلى نتائج سريعة وتحصيل السلوك المطلوب (مثل الانضباط في الحضور/حل الواجبات/ترتيب الغرفة/عدم التأخر في النوم..إلخ) بشكل سريع، إلا أن نتائجه على المدى البعيد ضعيفة وربما تكون سلبية، وعلمياً، لدينا ما يثبت بأن نتائج التحفيز الخارجي سلبية و وخيمة. فقد نحفز الطالب في المدرسة على حفظ قصيدة شعرية قبل انتهاء الحصة الدراسية من خلال وضع مبلغ مادي، وربما يحصل الأستاذ على مراده ولكننا غير متأكدين ما إذا كان الطالب قد حفظ القصيدة وفهم معناها، أو أسوأ من ذلك، فلا ندري هل سيبقى الطالب حافظاً للقصيدة الشعرية أم أن حصوله على المكافأة أنساه القصيدة تماماً. بل أكثر من ذلك، ما هي أخبار الطلاب الآخرين الذين لم يتحصلوا على مكافأة حفظ القصيدة؟ هل شاركوا في مسابقة الحفظ بعدما علموا أن هناك شخص أفضل منهم في الحفظ ولن ينالوا الجائزة بسبب صعوبة المنافسة؟ هل الطلاب الذين لم يتحصلوا على مكافأة حفظ القصيدة سعداء بأن ينال طالب واحد الجائزة بينما يتم تجاهل محاولتهم؟ فكر في الأمر جلياً.. لدينا زخم هائل من الأدلة المنطقية والعملية بأن الدافع الخارجي لا يأتي بنتائج إيجابية عميقة. وقد أثبتنا ذلك علمياً في دراسات نشرناها في أرقى جامعات العالم ودور النشر العلمية (طالع أبحاثي العلمية من هنا).

سمعت في إحدى المقابلات التلفزيونية أحد المتحدثين وهو يحكي عن تجربته مع ابنه المتكاسل عن حفظ القرآن. وعندما علم هذا الأب أن ابنه يحب استخدام بندقية الصيد الهوائية أخذ الأب البندقية ووضعها على الجدار وعلقها وقال لابنه: “إن حفظت سورة البقرة فستكون هذه البندقية الهوائية لك. هاهي معلقة على الجدار ولن ينزلها إلا حفظك لها”. يقول هذا المتحدث: “رغم المكافأة كان ابني يتعثر”. انتهت المقابلة ولم نعرف ما إذا كان الابن حصل على الجائزة أم لا. ونقول في هذه المقالة أن هذا الأسلوب التحفيزي مؤسف. فهذا المتحدث لم يخبرنا ماذا حصل مع ابنه بعد استخدام المكافأة؟ هل حصل عليها أم لا وماهي تبعات ذلك؟ يغلب على الظن أن هذا الابن لم يحفظ سورة البقرة (إن كان قد حفظها) من حب واهتمام. لأن حب الشيء والاهتمام به لا يصدر من المكافآت الخارجية. كما أنني أشك في استمرارية هذا الابن لحفظ بقية سور القرآن، يغلب على الظن أنه قد توقف عند هذه السورة وهو ينتظر حوافز أخرى ليكمل بقية السور! هل لاحظتم معي المشكلة، التحفيز خارجي الصرف ملفوف بالمشاكل ويندر أن يؤتي ثمار إيجابية عميقة وطويلة الأمد.

لكن ماذا عن الجنة والنار؟

كما ترى عزيزي القارئ فهناك الكثير من الإشكالات التي تحيط بالتحفيز الخارجي وهنا يأتي السؤال: هل الجنة والنار محفزات خارجية؟ يرغب البعض بتسويغ التحفيز الخارجي من منظور ديني من خلال الاستدلال بالجنة والنار. فقد يقول أحدهم: “الجنة مكافأة للمتقين والنار عقاب للمجرمين وهذا تحفيز خارجي، وعليه، يمكننا استخدام التحفيز بالمكافآت والجوائز”. والحقيقة أيها القارئ الكريم أن أفضل من يجيب لنا عما إذا كانت الجنة والنار مكافآت مقابل الأعمال هو أفضل من فهم القرآن الكريم وعلم معانية وتفسيره، إننا نتحدث عن الرسول الكريم ﷺ. يخبرنا الحبيب بأن الجنة والنار ليست مكافآت لأعمال البشر، فأعمال البشر بما يخالطها من ذنوب وهفوات هي بالتأكيد أقل من أن يقابلها نعيم الجنة العظيم. يقول النبي ﷺ  (لن يدخل أحداً عمله الجنة. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: لا، ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة، فسددوا وقاربوا) أخرجه البخاري. إذاً كيف نفسر الجنة والنار ضمن سياق التحفيز؟ يمكن أن نقول بكل اطمئنان أن الجنة والنار هما مصيرا جميع البشر، فكل بشر من آدم عليه السلام إلى آخر إنسان يعيش في هذه الدنيا مصيره إلى إحدى اثنتين: الجنة أو النار. يقول الله عز وجل {وكَذَ ٰ⁠لِكَ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ قُرۡءَانًا عَرَبِیࣰّا لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَتُنذِرَ یَوۡمَ ٱلۡجَمۡعِ لَا رَیۡبَ فِیهِۚ فَرِیقࣱ فِی ٱلۡجَنَّةِ وَفَرِیقࣱ فِی ٱلسَّعِیرِ}. فالتحفيز باستخدام الجنة والنار أمر مشروع ولاشك كونه مصير البشر. ولكننا نعلم من تراثنا الإسلامي وأحاديث نبينا الكريم أن هناك محفزات داخلية عميقة أكثر تأثيراً على النفس البشرية قوة واستدامة واستمرارية، فما هي؟

التحفيز الداخلي ينطوي على سبب القيام بالعمل من أجل أهميته والاستمتاع بعمله (حب+اهتمام=تحفيز داخلي)

يمكننا التعرف إلى الدفع الداخلي من منظور إسلامي من كلام ابن القيم الرائع في كتابه الشهير الجواب الكافي: (قد دل العقل والنقل والفطر وتجارب الأمم -على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها- على أنّ التقرب إلى ربّ العالمين وطلب مرضاته، والبرّ والإحسان إلى خلقه، من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير. وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شرّ. فما استُجلِبتْ نِعمُ الله واستُدفِعتْ نِقَمُه بمثل طاعته والتقرب إليه، والإحسان إلى خلقه). إذاً فالإحسان وحب الله وتحقيق البر والسعي لرضى الله بصدق، كل ذلك دوافع داخلية ذاتية عظيمة تتجاوز مجرد دخول الجنة أو النجاة من النار ونحن نسأل الله أن يدخلنا الجنة ويصرفنا عن النار ونرجو من الله أعظم من ذلك وهو حبه ورضاه وخشيته في السر والعلن. إذاً، ينبغي على المسلم العاقل أن يجعل هذه المعاني في مقدمة أهدافه في الحياة ليسعد وينعم.

وهذا هو النوع الثاني من أنواع الدافعية والتحفيز: الدافع الذاتي (أو الداخلي) وفيه تتجلى صورة حب العمل والاستمتاع بأدائه أو على أقل تقدير الاهتمام الصادق بأدائه من خلال الشعور بقيمته على النفس. وعندما تكون النفس متحفزة نحو أداء العمل بهذه الروح الإيجابية يمكننا أن نتوقع أجمل النتائج وأكثرها عمقاً وصدقاً واستمرارية. نجد في دراستنا العلمية المنشورة في أهم المجلات العلمية العالمية أن الدافعية الداخلية تؤتي ثمار مفيدة كالنجاح في التعلم والتطوع في العمل الوطني وتحمل المسؤولية في أثناء الأزمات. وهنا يأتي السؤال المهم. كيف كان النبي ﷺ يحفز الناس لعمل الصالحات؟ هل كان يغدق عليهم بالمكافآت الخارجية؟ هل كان يهدد بالعقاب؟ أم على العكس، كان يشير إلى قيمة العمل الصالح ويترك الخيار لمن هو أمامه لتبني العمل؟

كيف كان النبي ﷺ متحفزاً؟

جعل الله عز وجل لنبيه محمد ﷺ مكانة عظيمة بين البشر، فهو سيد ولد آدم، وخاتم الأنبياء وأعظمهم، هو صاحب المقام المحمود، وفي يوم القيامة يكون النبي ﷺ هو أول من يطرق باب الجنة ويفتحها لقوله عليه الصلاة والسلام (آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك) رواه مسلم. فهو ﷺ أو من يدخلها ويكون في أعلى منازل الجنة وأعلى درجاتها. والآن، عندما تكون كل هذه الخصال متوفرة وكل هذه الوعود محققة قطعاً كيف يمكن أن تكون ردة فعله ﷺ من الأمان وعدم الحاجة لبذل المزيد من الطاعة؟ هل تحفز النبي ﷺ بالمكافأة أم كان هناك شيء أعظم وأعمق من هذا يحفزه ﷺ؟ بمعنى: هل كان النبي صلى متحفزاً خارجياً كونه موعودٌ بالجنة؟ هل توقف عمله وانتهت عبادته وخشوعه بمجرد معرفته أنه ليس فقط من أهل الجنة بل أول من يدخلها ويسكن في أعلى درجاتها؟ لا يا سادة. فقد كان النبي ﷺ شخصية مميزة في التقوى و الدين والتوازن البشري والعاطفي، كان أشرف وأعظم من عرفت البشرية. ففي صحيح البخاري يقول النبي ﷺ (أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له). ومن أجمل ما يعكس شكل دافعية النبي ﷺ هو موقفه التي سجلته له السيدة عائشة رضي الله عنها حيث قالت: كان النبي ﷺ يصلي حتى ترم قدماه (تنتفخ من التورم)، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟، فقال: (أفلا أكون عبدا شكورا). أي: كيف لا أشكُره وقد أنعم علَيَّ وخصَّني بخير الدنيا والآخرة. نعم كان ﷺ متحفزاً داخلياً. يحب الله ويسعى بكل عمق لرضاه ونيل محبته. يستذكر الخير والنعمة التي خصها الله بها فيجعله ذلك في زيادة في العبادة. أيها الكرام، لايفعل شخص هذا من أجل مكافأة خارجية صرفه، بل هو الدافع الذاتي وما أجمل الدافع الذاتي الذي عكس صورته ﷺ .

من أركان التحفيز الذاتي: توفير بيئة إيجابية من خلالها يتحفز الشخص لأداء العمل برغبة ذاتية

وهنا يمكن أن نستعرض معكم بعض المواقف والمشاهد الجميلة من حياة النبي ﷺ نستخلص منها الطريقة التي كان يحفّز بها النبي ﷺ من حوله وسنكتشف ما إذا كان يستخدم تحفيز خارجي أو تحفيز داخلي عليه الصلاة والسلام.

الموقف الأول: نِعْمَ الرَّجُلُ عبدُاللَّهِ، لو كانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ

كان الصحابي الجليل عبدالله ابن عمر بن الخطاب يطمع في بداية حياته في المدينة المنورة أن يرى رؤيا ليقصها على النبي ﷺ . فقد كان أحدهم ينام ويرى الرؤيا فيحكيها للنبي ﷺ ليبشره بأمر أو يدله على خير. فنام الصحابي الجليل عبدالله ابن عمر في المسجد وقد كان أعزب في وقتها لم يتزوج. فرأى رؤيا في منامه وحكاها لأخته أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها، ونقلت بدورها الرؤيا وحكتها للنبي ﷺ . فعبر النبي ﷺ الرؤيا بأن عبدالله ابن عمر بحاجة لمزيد من العمل الصالح، وتحديداً هو بحاجة إلى قيام الليل. تلك العبادة العظيمة التي يغفل عنها الناس. وهنا نسأل كيف حفز النبي ﷺ هذا الصاحبي؟ هل قام عليه الصلاة والسلام بتحفيزه من خلال وضع مكافأة؟ أو تهديد بعقاب؟ لا لم يفعل ذلك صلوات ربي وسلامه عليه بل قال (نعْمَ الرَّجُلُ عبدُاللَّهِ، لو كانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ). إن هذا التعبير الإيجابي والتلميح الذكي يوفر لمن يستمع له البيئة والأرضية الكافية لينطلق بالعزيمة والعمل ويتحفز داخلياً لا خارجياً من خلال الضغوط من شخص ومقام النبي ﷺ الذي يحترمه ويجله جميع الصحابة الكرام. نلاحظ كيف أعطى النبي ﷺ مساحة لحرية الاختيار لعبدالله ابن عمر في قرار أداء هذه النافلة العظيمة ليرتفع بها، فهو سيكون ذو شأن أعظم إن قرر أن يواظب على هذه الطاعة. توفير الخيار والإرشاد للخير من دون إجبار ولا شروط هو منهج النبوة المنسجم مع الطبيعة البشرية التي فطرنا الله عليها {فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَیۡهَاۚ لَا تَبۡدِیلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِ}.

الموقف الثاني: أن تحب الله فيحبك الله

وهنا يتجلى موقف آخر يعكس قيمة الحب لله عز وجل. حيث يقول الرسول الكريم ﷺ (مَن أحَبَّ لِقاءَ اللهِ، أحَبَّ اللهُ لِقاءَهُ، ومَن كَرِهَ لِقاءَ اللهِ، كَرِهَ اللهُ لِقاءَهُ). ومن أعظم مايتضمنه هذا الحديث هو التحفيز لمحبة الله وأن هذا المعنى العميق يقود إلى صاحبه إلى أن يحبه الله عز وجل، وهل هناك أجمل وأجل وأسمى من أن تحب خالقك فيحبك خالقك؟ هذا تحفيز داخلي هائل تتكسر معه مصائب الدنيا وعوارضها. ونؤكد أن المحبة لا تأتي عن طريق الشروط والمكافآت الخارجية، فالمحبة تأتي من الصميم وهي تعبير عن الصدق الطاهر والمشاعر الجياشة والإيمان العميق وكل ذلك لا يكون نتيجة تحفيز خارجي بهدايا ومحفزات دنيوية.

الموقف الثالث: عدم استخدام الرسول ﷺ للمحفزات الخارجية حتى في أحلك الظروف

ربما تكون هذه النقطة هي أهم وأقوى دليل على أن النبي ﷺ لم يكن يستخدم الحوافز الخارجية حتى في أشد أوقات الحاجة. فكما نعلم أن رسالة الإسلام جاءت في وقت عصيب، وتضييق شديد من مشركي مكة. ألم يكن باستطاعة الرسول ﷺ استخدام نظام المكافآت لتشجيع الناس للدخول إلى الإسلام. مثال: ألا يمكن أن تصور الحاجة لأن يقول النبي ﷺ من سهد بأني رسول الله فله مني بعير جائزة، أو صرّة من ذهب، أو ارشحه ليكون وزيراً لي. لا لم يقل ذلك ﷺ ولم يلمح له ولم يستخدمه مطلقاً. لماذا؟ لأن هذا النوع من التحفيز لا ينسجم مع الطبيعة البشرية التي خلقنا الله عليها. فنحن مجبولون على أن نختار مصيرنا بالفطرة رغم أن الحوافز الخارجية قد تعيق هذا مع الأسف. وعندما تدخل الحوافز الخارجية وتكون هي سبب اتخاذ القرار يكون قرارنا ضعيفاً ومؤقتاً، وهذا ما لايريده صلوات ربي وسلامه عليه. فرسالة الإسلام عقيدة وإيمان لا يصلح معها التعلق بالحوافز الخارجية ولا مكافآت الدنيا المؤقتة. لقد تحفيزه داخلياً ﷺ من خلال التذكير بجزاء الإيمان وجزاء الكفر في الدنيا والآخرة. فكان يتلو القرآن ويعرض الإسلام ومن أراد أن يؤمن فليؤمن ومن أراد أن يعرض عن الإسلام فذلك قراره وسينال جزاءه عند الله {وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَاۤءَ فَلۡیُؤۡمِن وَمَن شَاۤءَ فَلۡیَكۡفُرۡۚ إِنَّاۤ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّـٰلِمِینَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن یَسۡتَغِیثُوا۟ یُغَاثُوا۟ بِمَاۤءࣲ كَٱلۡمُهۡلِ یَشۡوِی ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَاۤءَتۡ مُرۡتَفَقًا}. وقل مثل ذلك أيضاً في حفظ القرآن الكريم وحديثه ﷺ . ألم يكن المسلمين والنبي ﷺ  تحديداً أحوج ما يكون لتحفيز الناس لحفظ القرآن وكتابته وتدوينه؟ هل وضع النبي ﷺ مكافآت مثل الإبل والذهب والفضة والأقمشة والجواري لمن يقوم بذلك؟ هل هذا ما كان يحفز أبو هريرة رضي الله عنه لحفظ الحديث الشريف عن ظهر غيب؟ هل كان الدافع الخارجي هو مايحرك كتّاب الوحي أمثال علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان وطلحة ابن عبيدالله رضي الله عنهم؟ لا بالتأكيد، بل كان حبهم لله وللرسول ﷺ وإدراكهم لأهمية حفظ الدين وسباقهم لرضى الله بأداء ذلك. هكذا هي نتائج الدافع الداخلي عادةً.

ماذا عن العطايا للمؤلفة قلوبهم؟

ربما يفكر البعض حول مواقف أعطى فيها النبي ﷺ المؤلفة قلوبهم أموالاً وهدايا عينيّة مثل الذهب والإبل. فقد جاء في السيرة النبوية أن أعطى المؤلفة قلوبهم في غزوة حنين الكثير لتأليف قلوبهم للإسلام. فكما جاء في السيرة أنه أعطى مِن غَنائمِ حُنَينٍ مِئةً مِنَ الإبلِ عُيَينةَ بنَ بَدرٍ، والأقرَعَ بنَ حابِسٍ مِئةً مِنَ الإبلِ). وهنا يجب أن نسأل: أين التحفيز الخارجي في الأمر؟ لنعد إلى تعريفنا للتحفيز الخارجي وهو (شرط+نتيجة=تحفيز خارجي). وهنا نسأل: هل اشترط النبي ﷺ عليهم شيئاً مقابل نتيجة؟ الجواب هو لا. إذاً هذا ليس تحفيزاً خارجياً وإنما هو أقرب لكونه تحبيب للإسلام وكف أذى هؤلاء أن لايتكلموا عن الإسلام بسوء إن لم يسلموا. إذاً. يجب أن نميّز ماهو التحفيز الخارجي حتى نقيس عليه مواقف السيرة النبوية وأن لانستهد من السيرة ما لا يستقيم في خدمة فكرة خاطئة.

أليس نظام الحسنات والسيئات محفزات خارجية يمكن أن نستدل بها؟

وهنا أيضاً موضوع قد يلتبس على القارئ الكريم وهو نظام الحسنات والسيئات الذي وضعه الله عز وجل ونستقي تفاصيله من القرآن والسنة النبوية. يقول الله عز وجل {مَن جَاۤءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَاۖ وَمَن جَاۤءَ بِٱلسَّیِّئَةِ فَلَا یُجۡزَىٰۤ إِلَّا مِثۡلَهَا وَهُمۡ لَا یُظۡلَمُونَ}. وفي الحديث الذي رواه مسلم (كنّا عِنْدَ رَسولِ اللهِ ﷺ، فَقالَ: أيَعْجِزُ أحَدُكُمْ أنْ يَكْسِبَ كُلَّ يَومٍ ألْفَ حَسَنَةٍ؟ فَسَأَلَهُ سائِلٌ مِن جُلَسائِهِ: كيفَ يَكْسِبُ أحَدُنا ألْفَ حَسَنَةٍ؟ قالَ: يُسَبِّحُ مِئَةَ تَسْبِيحَةٍ فيُكْتَبُ له ألْفُ حَسَنَةٍ أوْ يُحَطُّ عنْه ألْفُ خَطِيئَةٍ). ويمكننا أن نقول أن الحسنات والسيئات إنما هي حاجة لتمييز قيمة الأعمال ودرجاتها عند الله. فمن خلال هذا النظام نعرف أن لذكر الله قيمة عظيمة عند الله ليست كفضيلة الشرب جالساً. عرفنا ذلك من قيمة الأعمال، وبذلك نتحفز إيجابياً نحو الأهم والأكثر أجراً عند الله. وهكذا أرشدنا الرسول الكريم وهكذا تعامل مع هذا النظام. ففي صحيح مسلم عن جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها أنّ النبيَّ ﷺ خَرَجَ مِن عِندِها بُكْرَةً حِينَ صَلّى الصُّبْحَ، وهي في مَسْجِدِها، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أنْ أضْحى وهي جالِسَةٌ، فَقالَ: ما زِلْتِ على الحالِ الَّتي فارَقْتُكِ عَلَيْها؟ قالَتْ: نَعَمْ، قالَ النبيُّ ﷺ: لقَدْ قُلتُ بَعْدَكِ أرْبَعَ كَلِماتٍ، ثَلاثَ مَرّاتٍ، لو وُزِنَتْ بما قُلْتِ مُنْذُ اليَومِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحانَ اللهِ وبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ ورِضا نَفْسِهِ وزِنَةَ عَرْشِهِ ومِدادَ كَلِماتِهِ). فمن خلال هذا النظام علمنا أن هذه الكلمات الأربع عظيمة جداً وهي أعظم من التسبيح المجرد. وقس ذلك على جانب السيئات لتجد ذات النتيجة. إذاً، هكذا يمكن أن نقرأ الحسنات والسيئات كنظام رباني وشرع إلهي حكيم يميز المسلم المهم من الأهم، وأنها ليست مجرد محفزات دنيوية خارجية كما قد يظن البعض.

هل هناك موقف تم استخدام التحفيز الخارجي فيه؟ وماذا كانت النتيجة

رغم أنني لم أقف على موقف صريح تم استخدام فيه المكافأة والعقاب بشكل صريح إلا أنه يوجد موقف حصل في عهد أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه. فعندما استلم رضي الله عنه إمامة المسلمين بعد موت أبو بكر رضي الله عنه كان المسلمون في العراق يحتاجون إلى المدد من أجل قتال الفرس. فقام يخطب بمن هم في المدينة المنورة فلم يستجب له أحد. فقام المثنى ابن حارثة فحز الناس بالدنيا (ولم يكن قد حصل ذلك من قبل) فقال لهم: إِنَّ الْحِجَازَ لَيْسَ لَكُمْ بِدَارٍ إِلا عَلَى النُّجْعَةِ (أي تربية الإبل والمرعى)، وَلا يَقْوَى عَلَيْهِ أَهْلُهُ إِلا بِذَلِكَ، أَيْنَ الطُّرَّاءُ الْمُهَاجِرُونَ عَنْ مَوْعُودِ اللَّهِ! سِيرُوا فِي الأَرْضِ الَّتِي وَعَدَكُمُ اللَّهَ فِي الْكِتَابِ أَنْ يُورِثَكُمُوهَا، فَإِنَّهُ قَالَ: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» ، وَاللَّهُ مُظْهِرٌ دِينَهُ، وَمُعِزٌّ نَاصِرَهُ، وَمُوَلِّي أَهْلَهُ مَوَارِيثَ الأُمَمِ أَيْنَ عِبَادُ اللَّهِ الصَّالِحُونَ!. أنتهى تحفيز المثنى ابن حارثة هنا، حيث حفزهم بالكنوز في أرض العراق والخير الذي فيها إن أصبحت بين يدي المسلمين. وبحجم المدينة المنورة بمن فيها من صحابة ومسلمين جدد لم ينهض إلا رجل واحد فقط! ياللهول، رجل واحد فقط. هل رأيتم معي كيف لا يثمر التحفيز الخارجي بثماراً إيجابية. وبعد أن قام ذلك الرجل تبعه اثنان فقط فأصبحوا ثلاثة وأرسلهم عمر رضي الله عنه إلى العراق. فالعرب والناس بفطرتهم تعودوا أن يقوموا بأداء الأمور بقناعة ذاتية عميقة وهذا الموقف إشارة واضحة للفطرة السليمة التي كانوا عليها الناس.

ختاماً، الهدايا بعد إتمام مهمة ما من غير وعود أو الاحتفال بالإنجاز (مثل التخرج) ليست مكافآت خارجية، وإن لم يتيسر لك معرفة السبب أقترح عليك قراءة أركان التحفيز الخارجي بالأعلى، إليك تعريف التحفيز الخارجي مرة أخرى لتعرف السبب: شرط+نتيجة=تحفيز خارجي.

هناك الكثير مما يمكن أن نقوله من جماليات التحفيز السليم والدافعية الذاتية وفق منهج الرسول ﷺ . أرجو أن تكون هذه المقالة نبراس خير وفرصة جديدة للنظر في موضوع الدافعية من منظور يتماشى مع الطبيعة البشرية. ألقاكم في موضوع جديد إن شاء الله 🌷

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *